مدرسة النصر وادي العلايق. البليدة
مدرسة النصر وادي العلايق. البليدة
مدرسة النصر وادي العلايق. البليدة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مدرسة النصر وادي العلايق. البليدة

سر النجاح
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخولقصص للمطالعة من إعداد عبد المالك عبد القادر مدير مدرسة النصر  شخصيةمواضيع مختلفة

 

 قصص للمطالعة من إعداد عبد المالك عبد القادر مدير مدرسة النصر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبد المالك عبد القادر
Admin



المساهمات : 416
تاريخ التسجيل : 01/03/2013
العمر : 60
الموقع : https://benchicao.forumalgerie.net

قصص للمطالعة من إعداد عبد المالك عبد القادر مدير مدرسة النصر Empty
مُساهمةموضوع: قصص للمطالعة من إعداد عبد المالك عبد القادر مدير مدرسة النصر   قصص للمطالعة من إعداد عبد المالك عبد القادر مدير مدرسة النصر Emptyالأربعاء مارس 13, 2013 9:02 am

آخٌذُهَا، لا آخُذُهَا !
التَّرَدُّدُ مَرَضٌ شاسِعٌ يَعُوٌقُ الْعَمَلَ وَيَشُلُ الحَرَكَةَ؛ وَتظْهَرُ أَعْراضُهُ جَليَّةً فيِ تَصَرُّفِ المُتَرَدِّدِينَ.
وَ المتَرَدِّدُ مُرْتَبِكٌ دائِمًا، مُعَلَّقٌ بَيْنَ السَّلْبِ والإيجابِ؛ أَيَمْضيِ أَمْ يَقِفُ؟ أَيَلْبَسُ مِعْطَفَهُ أمْ يَتْرُكُهُ؟ أَيُقْدِمُ أَمْ يُحْجِمُ؟ هذِهِ الأسئلةُ، وَكَثِيرٌ منْ نوْعِهاَ، تخطُرُ لهُ في كلِّ خُطوَةٍ يَنْقُلُهاَ أَوْ عَمَلٍ يَقُومُ بِهِ.
والآنَ أُقَدِّمُ لَكُمْ ابْنَ جارتناَ: إنَّهُ متَرَدِّدٌ؛ نَعَمْ مُتَرَدِّدٌ. اسمَعُوا هذِهِ الحَادِثَةَ، فَقَدْ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ صَبَاحَ البَارِحَةَ:
الابْنُ : أتَرْتَئين، يَا أُمِّي، أَنْ آخُذ مِظَلَّتيِ اليَوْمَ؟
الأُمُّ: كَما تُحِبُّ، يَا عَزِيزي.
الابْنُ : وَالْمَطَرُ، أَتظُنِّينَ السَّماءَ تُمْطرُ اليومَ؟
الأمُّ : لا أَدْري؛ هذا أمْرٌ لاَ يَتَوَقَّفُ على ظَنِّي.
الابْنُ: إِذَنْ فَلْنَأْخُذْها. لا كُلْفَةَ في الأمْرِ. مِظَلَّتي خَفِيفَةٌ.
الأمُّ : حَسَنًا تَفْعَلُ؛ وهيَ علَى خِفَّتِها جَمِيلَةٌ تُحْمَلُ.
الابْنُ :وَلَكِنْ... ليِ رَأيٌ، يَا أُمَّاهُ؛ هذِهِ المِظَلَّةُ تُزعِجُني إذا لم يُنْزِلِ المطَرُ اليَوْمَ أُفَكِّرُ فيِ أنْ أُبْقيِهَا؛ ما تَرَيْنَ؟ أَلَيْسَ مُضْحِكًا أَنْ يَحْمِلَ الشَّابُ مِظَلَّةً في يومِ صَحْوٍ؟
الأُمُّ: اتْرُكْهَا إِذَنْ ولاَ خوْفَ عَلَيْكَ.
الابْنُ : وَإِذاَ أَمْطَرَتْ؟ ألاَ يتعَرَضُ مِعْطَفيِ لِلْبَلَلِ وقميصيِ؟ وَمَلاَبِسِي كُلُّهَا، ألا تَكونُ فيِ خَطَرٍ؟ ماذاَ تَقولينَ، أُمَّاهُ؟
الأمُّ: إِذَنْ لَمْ يبْقَ إلاَّ أَنْ تَأْخُذُهَا. أَقُولُ خُذْهَا، والسَّلامُ. وقفَ الابْنُ لَحْظَةً يَتَسَاءَلُ: آخُذُهَا؟ لا آخُذُها. آخُذُها. لا آخُذُها...وَأَخيراً صَمِّمَ عَلَى أنْ يَأْخُذَهَا، وغادرَ غُرْفَتَهُ. فَلَمْ يَمْشِ خُطْوَةً حتَّى عَنَّ لَهُ أنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَتَبَدَّلَ حالةُ الجَوِّ وَتُشْرِقُ الشَّمْسُ! وَ لَرُبَّما ذهِلَ عنْهاَ فأَضاعَهَا, مِن الخَيْرِ إذَنْ ألاَّ يأْخُذَهاَ.
لمَّا مَرَّ بالغُرْفَةِ المُجَاوِرَةِ وَجَدَ مِظلَّتُهُ مُعَلَّقَةً على المِشْجَبِ؛ فقالَ لِنَأْخُذْهَا. فَتَأَبَّطَهَا.








الباب الثاني: قصص تاريخية _ من امجاد الجزائر
الشهيد : امْحمَّدْ بوقرَّةَ




عاد التِّلميذُ رِيَاضُ إلى المنزلِ مُبْتَهِجًا بنجاحه في امتحان الانتقالِ إِلىَ السَّنَةِ الأولىَ من التَّعْلِيمِ المُتَوَسِّطِ؛ وَحينما رَجَعَ أَبُوهُ مِنَ العَمَلِ أَسْرَعَ إلَيْهِ لِيُعَبِّرَ لهُ عنْ فَرَحِهِ بِالنَّجاحِ قَائِلاً: أبيِ، أبيِ، لَقد نجَحْتُ بِتَفَوُّقٍ فيِ امتحانِ الانتقالِ إلى التَّعْليِمِ المُتَوَسِّطِ، لذَا فَإِنِّي فَرِحٌ بِهَذِهِ النَّتيجَةِ، وَازْدَدْتُ فَرَحًا حينَ عَلِمْتُ أَنَّ الإداَرَةَ وَجَهَتْني لِمُواصَلَةِ التعَلُّمِ فيِ المُتَوَسِّطَةِ الَّتي لا تَبْعُدُ كَثيراً عن حيِّنا، فَهَلْ تُرافِقُنِي يا أَبيِ، لِزيارَتِهَا وَ تَثْبِيتِ تَسْجِيليِ بهَا ضِمْنَ تلاَميِذِهَا؟
الأبُ: سأُرافِقُكَ طَبْعًا يَا بُنَيَّ لِتَتَعَرَّفَ على المتوسِّطَةِ الَّتي سَتَدْرُسُ فِيها أَرْبَعَ سنواتٍ.
وفي الصَّبَاحِ الغَدِ تَوجَّهَ رياضٌ معَ أَبِيهِ إلىَ المُتَوَسِّطَةِ، وحينَما وصَلاَ، وقَفَ رياضٌ أَمامَ بابِها وَأخذَ يتَأمَّلُ ما كُتِبَ فَوْقَ مَدْخَلِها، فلمَّا قَرَأَ ما كُتبَ على اللَّوْحَةِ المثَبَّتَةِ فَوقَهُ سِي امْحمَّدْ بوقرَّةَ... تذكَّرَ أَنَّهُ نَفْسَ الاسمِ الَّذي رآهُ مكتُوباً على أوراقِ أُخْتِهِ أحْلاَم الطَّالبَةِ، بِجامِعَةِ سِي امْحمَّدْ بوقرَّةَ بِبُومرداسْ، فالْتَفَتَ إِلَى أَبِيهِ، وقَالَ:
لاشكَّ أنَّ هذا الاسْمَ الَّذي تَحْمِلُهُ هَذِهِ المُؤسَّسةُ وَ تَحْمِلُهُ جامِعَةُ بومرداس هو لِشخْصيَّةٍ من شَخْصيَّاتِ الجزائر التَّاريخيَّة.
الأبُ: نَعَم يابُنيَّ إِنَّهُ واحِدٌ من عُظمَاءِ ثَوْرَتِنا المَجِيدَة الَّذين أسْهَمُوا فيِ تَحْرِيرِ البِلاَدِ؛ كانَ قائِداً للولاية الرَّابِعَةِ أثْناءَ الثَّوْرَةِ، وَكَان يَتَمَيَّزُ بالشَّجاَعَةِ وَ الإِقْدَامِ، وَيتَّصِفُ بِصِفَاتِ للقائِدِ النَّاجِحِ...
رِيَاضُ: أرْغَبُ في الْتَّعرُّفِ على حياةِ هذه الشَّخصيَّةِ الوَطَنِيَّةِ، فَهَلْ تُساعِدُنِي علىَ ذَلِكَ؟
الأبُ: بكلِّ فَرَحٍ وسُرُر.
سَأُلَـبِّي لكَ هذِهِ الرَّغْبَةَ حِين نرْجَعُ إِلى المَنْزِلِ. وبعد التسجيلِ في الْمُتَوسِّطَةِ ورُجُوعِهِما إلى المَنْزِلِ بَحَثَ الأبُ في منتدى متحف المجاهدين بالشَّبكة العَنْكبُوتية وجد الكثير من معلومات عن سيرةِ بَعض الشُّهَداءِ، وَمِنْهُمْ سيِ امْحمَّدْ بوقرَّةَ، فراحَ يَتَصفَّحُهُ و بجانبهِ وَلَدَهُ رِياض.
الأبُ: اسمَعْ يابُنيَّ إنّ اسمَهُ العَقيقيَّ كمَا هوَ مُسجَّلٌ في سِجِلاَّتِ الحالَةِ الْمَدَنِيَّةِ هُوَ أحمد (بوقارة) وَلَكِنَّهُ عُرِفَ أَيَّامَ الثَّوْرَةِ باسمِ سيِ امْحمَّدْ بوقرَّةَ. وُلِدَ بِـمَدينَةِ خْمِيسْ مَلْيَانَة ( ولاَية عيْن الدَّفْلى حالِيًا) فـيِ 02 ديسمبر 1928، وعاشَ فيِ هذِهِ الـمَديِنَةِ، وَتَرَعْرَعَ بَيْنَ رُبُوعِهَا؛ كانَ يَتَمَيَّزُ منْذُ صِغَرِهِ بالحيَوِيَّةِ والفِطْنَةِ والذَّكاء، وحين بلوغه السَّادسةَ من العُمُرِ سَجَّلَهُ أَبُوهُ فيِ المَدْرَسَةِ الابتدائيَةِ الفرنسيَّةِ(لاَفَايَاتْ) المُخَصَّصَةِ لأبْنَاءِ الجزائريّين الّذين كانت تُسَمِّهِمُ الإِدارَةُ الاستعْماريَّةُ (الأنْدِيجَانْ)؛ أَيْ الأَهاليِ.
في هذه المدْرَسَةِ واصلَ تَعَلُّمَهُ حتّى تَحَصَّلَ على الشَّهادَةِ الابتدائيَّةِ، وفي نَفْسِ الوَقْتِ كان يُتابِعُ دروساً في اللُّغة العربِيّةِ، ويَحْفِظُ القرآن الكريمَ في الكُتَّاب.
أثْنَاء الحديِثِ دَخَلَتْ أحلاَم(أُخْتٌ رياض)، فَسَمِعَتْ أبَاهَا يَتَحَدَّثُ عن شَخْصيَّةِ سيِ امْحَمَّد بوقرَّة؟
أحْلاَم: هَلْ تَسْمَحُ لِي يَا أَبِي بِالجُلوسِ مَعَكُمَا وَ المُشارَكَةِ في الحوارِ لأنِّي أَرْغَبُ فيِ المَزِيدِ منَ المعْلُومَاتِ التَّاريخيَّةِ؟.
الأبُ: لاَ ماَنِعَ ياَبُنَيَّتيِ بَلْ يَسُرُّنِي ذلِكَ.
رياضٌ وَاصِلْ حديثَكَ يَا أبيِ، عن سيرَةِ هذا الشَّهيد.
الأبُ: كانَ والِدُ "أحمد بوقارة"( الحاج العربي" حريصًا على حُسْن تربيَتِهِ وتشْجِيعهِ على اكتساب المعارِفَ؛ وكانَ يَرْغَبُ في إرسالهِ إلى جامِع الزَّيْتونة بتونس ليواصِلَ تعلُّمَهُ فيهِ، لَكِنَّ الظُّروفَ لمْ تكُنْ مُواتِيَةً، لذلك اِكتفى بما تعَلَّمهُ فيِ بِلاَدِهِ؛ ويذْكُرُ الَّذين كَتَبوا عن سي امحمد أنَّهُ انقطَعَ عن التَّعَلُّمِ وعُمُرُةُ(15)سَنَةً، ولكِنَ ما تعلَّمَهُ في المَدْرَسَةِ الفِرنْسِيَّةِ والكُتَّابِ جعَلَ فِكْرَهُ يَنْمو وَمَدارِكَهُ تَتَفَتَّحُ، وَمِنْ هُنَا بَدَأَ وَعْيَهُ الوطَنِيُّ يَتَبَلْوَرُ وازْدَادَ هذَا الوَعْيُ نمواً حينَ انخَرَطَ فيِ الْكَشَّافَةِ الإسْلاَمِيَّةِ الجزائِريَّةِ، التي تعتَبَرُ بالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بِمَثَابةِ مَدْرَسَةٍ، لَقَّنَتْهُ دُرُوساً فيِ التَّرْبِيَةِ والأخلاَقِ الوَطَنِيَّةِ.
ونظراً لنَبَاهَتِهِ وحيَوِيَّتِهِ اِنْدَمَجَ بِسُرْعَةٍ فيِ النَّشَاطَاتٍ الكَشْفِيَّةِ، ممَّا أَهَّلَهُ فيما بَعدُ لِتَوَلِّهِ قيادةَ فَوْجِ الجَوَّالَة.
إنَّ نَشاطَهُ الكَشْفِيَّ هُوَ الّذي عَمَّقَ لَدَيْهِ الوَعْيَ الوَطَنِيَّ وَصَقَلَ مواهِبَهُ فَتَفَتَّحَ ذِهْنُهُ وَتَوَسَعَتْ مدارِكُهُ فأصبَحَ مُسْتَوْعِبًا خُطُورَةَ الأوضَاعِ المَأْساوِيَّةِ الَّتي كَانَتْ تَعِيشُهاَ بِلاَدُهُ، وَمِنْ ثَمَّ اِزْدَادَ إِيمانًا بِضَرُورَةِ النِّضَالِ الهادِفِ إلَى التَّغْيِير، وقد مهَّدَ لَهُ انْخِرَاطُهُ فيِ الكَشَّافَةِ الانضِمَامَ إِلى صُفُوفِ الحَرَكَةِ الوَطَنيَّةِ التي وجدَ في بَرَامِجِهَا ضاَلَّتَهُ فأعْطَاهَا كُلَّ اِهْتِمَامِه.
لقد كان سي امـْحَمَدْ مِثْلَ كَثِيرٍ من شَبابِ الجزائِر يَتَطلَّعُ إلى يَوْمٍ تُشْرِقُ فيهِ شمْسُ الحُرِّيَّةِ على أرْضِ الـجزائرِ، وَهذا ما دَفَعهُ إلى المُشارَكَةِ في مُظَاهَرَاتِ 08 ماي 1945 ميلادية المُعَبِّرَةِ عَنِ الرَّفْض القَوِيِّ للاسْتِعْمَارِ والْمُطالبةِ بالحُقُوقِ في الحُرِّيَّةِ والاستقلاَلِ؛ هذِه الْمُظَاهَرَاتُ نَتَجَتْ عَنْهَا أحْداثٌ أَلِيمَةٌ عَاشَهَا الشَّعْبُ الجزائِريُّ واَكْتَوى بِنَارِها.
لَقَدْ اِصطدَمَ سي امحمد كغيرِهِ من أبناء الوَطَنِ بِرَدِّ فِعْلِ السُّلُطَاتِ الْفَرَنْسِيَّةِ الْعَنِيف، إذْ سَلَّطَتْ عليهم القَمْعَ والسِّجْنَ والتَشْريدَ والقَتْلَ الجَماعِيَّ، ولمْ يَنْجُ سي امـحمد من عملِيَّاتِ القَمْعِ، إذْ أَلْقَتْ عَلَيْهِ القَبْضَ وَزَجَّتْ به فـي السِّجْنِ، وظَلَّتْ تُتَابِعُهُ وتُلاَحِقُهُ حتَّى بَعْدَ خُرُوجِهِ من السِّجْنِ.
أحْلاَمُ: يُقَالُ إنَّهُ هاجَرَ إلى تونِسَ هَلْ هذَا صَحيِحٌ ولِمَاذا؟
الأبُ: نَعَمْ هَاجَرَ إلى تونس عَامَ 1946 ميلادية فِراراً من مُلاحَقَةِ البُوليسِ، وَهُنَاكَ التَحَقَ بجَامِعِ الزَّيْتُونَةِ للدّراسةِ، وَلَكنَّهُ لمْ يَبْقَ فيهِ سِوَى عامٍ واحِدٍ، وَاحِدٍ، وَفِي هذا العامِ شارَكَ معَ الْمُناضِلين الجزائريِّين الذينَ وَجَدَهُمْ هُنَاكَ فيِ تَنْظيِمِ حركَةَ الانتصارِ للحُرِّيَاتِ الديِمُقْراطِيَّةِ، وَلَكِنَّ هَاجِسَ الْعَوْدَةِ إلى الجزائِرَ لَمْ يُفَارِقْهُ طَوالَ وُجودِهِ هُناكَ فعادَ وَكُلّهُ إرادَةٌ وَعَزْمٌ وَحَمَاسَةٌ لِمُواصَلَةِ الكِفَاحِ.
وبَعْدَ عَودَتِهِ من تونِسَ عام 1947 ميلادية انْضَّمَ إلى صفوفِ المنظَّمَةِ الخَاصَّةِ الَّتي تكوَّنَتْ فيِ نَفْسِ السَّنَةِ.
كَانَ "سيِ امحمَّد" من المناضلينَ القلائِلِ الذين وجدوا في برامِجِ هذه المُنَظَّمَةِ ما يُشْبِعُ تَطَلُّعَهُمْ للإسْهَامِ فيِ الأَعْمَالِ التي تُعَجِّلُ بالانطلاَقَةِ الفِعْلِيَّةِ للكِفَاحِ المُسَلَّح.
وَاعْتِبَاراً لانْضِباَطِهِ وَحَيَوِيَّتِهِ عَيَّنَتْهُ الْمُنَظَّمَةُ الخاصَةُ مَسْؤولاً بِمَسْقَطِ رَأْسِهِ(خَمِيس مَلْيَانَة)، لِتَأْطيِرِ وَتَنْشِطِ خَلاَيَاهَا. وَقَدْ انصَبَتْ اهتماماتُهُ على تَكْوينِ الْمُناضلينَ وِفْقَ خُطَطِهَا، فأظهَرَ براعَةً في التَّكْوِينِ، وظَلَّ يَنْشُطُ في مجَالِ تَنْظِيمِ الْمُناضلينَ، ومتابَعَةِ نَشَاطِهِم، وَتَدْريبِهمِ على الأَعمالِ (شِبْهَ العَسْكَرِيَّةِ) إلى حين اكْتِشَاف العَدُوِّ الْمُنَظَّمَةِ الخاصَّةَ، فأُلْقِيَ القَبْضُ عَلَيْهِ وعلى مَجْموعَةٍ من رِفَاقِهِ، وَلَمَّا أحيلَ على الْمَحْكَمَةِ العَسْكَريَّةِ بالبليدة حَكَمَتْ عَلَيْهِ بثَلاثِ سَنَواتٍ سِجْناً.
وَبَعْدَمَا أُطْلِقَ سَرَاحُهُ، أُجْبِرَ على مُغادَرَةِ مَسْقَطِ رَأْسِهِ، فَتَوَجَّهَ إلى العاصِمَةِ مُكْرَهًا، ولكن هذا الإبْعَادَ أتَاحَ لَهُ فُرْصَةً، عَرَفَ كيْفَ يَسْتَغِلُّها، فالتحقَ بِمَرْكَزِ التَّكْوِينِ الْمِهْنيّ بِالقُبَّة، وتَخَصَّصَ في الكَهْرَبَاء.
رياض: مازلْتُ يا أبي لَمْ أعْرِفْ متى الْتَحَقَ بالثَّوْرَةِ؟
الأَبُ: الآن يَأْتيِ الحَديثُ عن ذلك، فلا تستعْجِلْ، لقد كان الإعلان عن الثَّوْرَةِ الْمُسلَّحَةِ الحُلْمَ الكبيرَ الذي كان يتطلَّعُ إليْه (سي امحمَّد) وَرِفاقُهُ في النِّضَالِ مُنْذُ انضمامِهِ إلى صفوفِ حَرَكةِ الانْتِصارِ للْحُريَّات الدِّيمُقراطيَّةِ وَبَعْدَ انْدلاعِ الثَّوْرَةِ انظمَّ إِلَيْهَا ولبَّى نِداَءَهاَ وَكَانَ أَوَّلُ اتِّصَالِهِ بالتَّنْظيمِ الّذي رَسَمَتْهُ قِيَّادَةُ الثَّوْرَةِ بَعْدَ اعتقَالِ رابَح بِيطاطِ مَسْؤولِ الْمِنْطَقَةِ الرَّابِعَةِ وَتوَلـِّي اوعَمْرَانَ الْمَسْؤوليَةَ بَعْدَهُ.
وَإثْرَ انْطِلاَقِ الثَّوْرَةِ كُلِّفَ سي امْحمَّد بوقرّة بالتَّوجِيه والتَّنظيِم السِّيَاسيِّ وَشَرَعَ منْذُ الوَهْلَةِ الأولى في تكوينِ خلاَياَ النِّظَامِ التي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا في الجهادِ.
وَقَدْ تَقَلَّدَ مهَمَّاتٍ مُخْتَلِفَةً، حَيْثُ عُيِّنَ في البدايَةِ مسؤولاً سِيَاسِيًّا في الوَقْتِ نَفْسِهِ كان يقومُ بالاتِّصَالِ والتَّنْسيقِ معَ نظَامِ الثَّوْرَةِ بالجزائر العاصِمَةِ وَمَا جَوَرَهاَ، وَظَلَ سي امْحَمَد يَتَحَرَّكُ بِقُوَةٍ في هذا الاتِجاَهِ وكانَ هَدَفُهُ تَقْوِيَةَ الإيمانِ بالثوْرَةِ وَنَشْرِ رِسالَتِهاَ الْمُقدَّسَةِ.
رياض: قُلْتُ لناَ في البدايَةِ: إنَّهُ تولَّى قيَّادَةَ الولاَيَةِ الرَّابِعَةِ، فَمَتىَ تمَّ ذلِكَ؟
الأَبُ: قبلَ ذلِكَ أذكُرُ لَكُمَا بَعْضَ المَسْؤُولِيَّاتِ التي تَقَلَّدهَا بعْدَ الاجْتِمَاعِ الذي قَرَّرْتَهُ قيَّادة الْثَّورَةِ فيِ 20 أَوْت 1956 ميلادية و المعروفِ بِمُؤْتَمَرِ الصُّومام.
بَعْدَ هذَا الْمُؤْتَمَرِ تَمَّ تَعْييِنُ "سي امْحمّد بوقرَّة" مسْؤُولاً سياسيًّا على مُسْتَوىَ النَّاحِيَةِ، ثمَّ تدَرَّجَ فِي سُلّمِ المسؤولِيَّاتِ بَعْدَ ذلكَ حتى صارَ عُضْواً فيِ مَجْلِسِ قِيَّادَةِ الولاية الرَّابِعَةِ.
أمَّا قِيَادَتُهُ للولاية فقد أسْنِدَتْ لهُ مُنْذُ سَنَة 1957 ميلادية، حيثُ نظَّمَ هياكِلَهَا ودَعَّمَ نِظَامَهَا الثَّوْريِّ بالشَّبَابِ المُتَعَلِّمِ الذي كَانَ يَرى فيهِ الطَّاقَةَ و المتَجَدِّدةَ التي تَحْتاجُ إِلَيْهاَ الثَّورَةُ، فَلَم تَكُن اهْتِمَامَاتُهُ بالتَّنْظِيمِ والتَّنْسيِقِ تَتَوَقَّفُ عِنْدَ حدوُدِ الولاية الرَّابِعَةِ بَل امتدَّتْ إلى بقيَّةِ الولاياتِ الأُخْرىَ ممَّا أكْسَبَهُ التَّقْديِرَ والاحْتِرَامَ منْ قِبَلِ جَميِعَ المسؤُولينَ.
أحلام: والآن حدِّثْنا يا أبِي عنِ المَعَارِكِ الَّتي شَارِكَ فيهاَ؟
الأبُ: حَسَناً يَا بنَيَّتيِ؛ لقد خاضَ "سي امْحمّد بوقرَّة" الكَثِيرَ من المعارِكِ بِجِبَالِ زكَّار وَعَمْرونَة واثْنِيَّة الحَدْ والوَنْشَريسْ وَغَيْرِهَا، وسَاعَدَتْهُ في ذلكَ خِبْرَتُهُ الذَّتِيَّةُ الْمُعْتَمِدَةُ على حَرْبِ العِصَابَاتِ. لَقَدْ اعترَفَ لَهُ العَدُوُّ قَبْلَ الصَّديِقِ بِشَجَاعَتِهِ وَبُطُلَتِهِ علىَ أَرْضِ المَعْرَكَةِ بِفَضْلِ حِنْكَتِهِ السِّياسِيَّةِ وخُطَطِهِ العَسْكَرِيَّةِ.
فيِ هَذه الأَثْنَاءِ دَخَلَ خالُ ريَاضٍ وَ أَحْلاَمٍ (الأستَاذُ جمال) فقال الأَبُ: لقد وَصَلَ أستَاذُ التارِيخِ فيِ الوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِيُشَارِكَنَا حَدِيثَنَا عَن الْمَعَارِكِ وَعَنْ الواقِعَةِ التيِ استُشْهِدَ فيها "سي امْحمّد بوقرَّة" وَ أصْبَحَتْ تَحرُّكاتِهِ تثير القلق لدىَ القوَّاتِ الاستعماريَّةِ، التي كانتْ تَتَحَيَّنُ الفُرَصَ للوُصُولِ إِلَيْهِ أ, مُحَاصَرَةِ الجِهاتِ التي يتردَدُ عَلَيْهاَ، فكَثِيراً ما وجَدَ القائِدُ نَفْسَهُ في مواجَهَات غيْرَ متكافِئَةِ مع العدوِّ ولكنَّهُ كانَ غالِبًا مَا يَخْرُجُ مِنْها منتصِراً وكان المُجاهِدونَ يُواجِهونَ فيها العدوَّ مِثْلَمَا حدَثَ فيِ إِحْدى المَرَّاتِ لَمَّا أجْبَرَتْهُ الظُّروُفُ أ،ء يَتَصدَّى مع المُجاهِديِنَ لقُوَّاتِ العَدُوِ وَهِيَ تَقُومُ بِعملِيَّةِ تَمْشِيطٍ في جبالِ الْمَنْطِقَةِ، فاسْتَبَكُوا مَعَها في مَعْرَكَةٍ كبيرَةٍ شارَكَ فيها القائدُ إلى جانِبِ الْمُجاهِدينَ الذينَ كانوا يتسابقونَ كعادتِهُم لنَيْلِ الشَّهَادَةِ.
هذا عَنِ المَعَارِكَ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، أمَّا عن الواقِعَةِ التي استشْهِدَ فيها العقيدُ بوقرة، فهي كما يرْويِهاَ مَنْ عَاشوا أحْداثَها؛ تَتَلَخَّصُ في أَنَ القَائِدَ بوقرة عندما اِتَّجَهَ نَحْوَ مَرْكَزَ القِيَادَةِ بِنَواحيِ أولادِ بوعشرةَ بولاية الْمَديَّة وجَدَ نَفْسَهُ وَمَنْ مَعَهُ من المُجَاهِدِينَ مُحاصرينَ مِنْ قِبَلِ قُوَّاتِ الْعَدُوِّ فَلَجَأوا إلىَ ناحيَةٍ في الجَبَلِ واخْتَفَوْا فِيهاَ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ بَعيِدونَ عنْ قُوَّاتِ العَدُوِّ اِخْتَفُوا حتى يَتَّضِحَ لَهُمْ الوَضْعُ. وَلَكِنَ مَجْمُوعَةً من قواتٍ الْعَدوِّ لَمَحَتْهُمْ واكتشَفَتْ مَكَانَهُمْ فَسَلَّطَتْ نِيراَنَهَا عَلَيْهِمْ من بعيدٍ، فَما كانَ من القائِدِ وَرِفَاقِهِ إلاَّ أنْ يَثْبُتُوا وَيُواجِهُوا القَصْفَ الجَوِيَّ العَنِيفَ بِكُلِّ بسالَةٍ وَ صُمُودٍ فَلَمْ يَسْتَسْلِمُوا رغْمَ كثافتِهِ وهكذا تواصلتْ المواجَهَةُ بيْنَ الطَّرَفَيْنِ إلىَ أنْ فازَ القَائِدُ وَرِفَاقُهُ بِالشَّهادَةِ فيِ يَوْمِ 05 ماي 1959ميلادية .
الأبُ: هذاَ هوَ الشَّهِدُ "سي امْحمّد بوقرَّة" وَهَذِهِ قِصَّةُ نِضَالِهِ وَكَيْفَ تَمَّ استشْهَادُهُ، لَعَلَّكُمْ الآنَ قَدْ فَهِمْتُمْ قِصَّةَ هذَا البَطَلِ المِغْوَارِ، الذي أرْجُو أنْ تَجْعَلُوهَا نَمُوذَجًا تَقْتَدونَ بِهِ فيِ الإيْمَانِ بالوَطَنِ وَبِواجِبِ الدِّفَاعِ عَنْهُ.
تحيا الجزائر "المجد والخلود لشهدائنا الأبرار"










الشَّهيِدُ: عَليّ عَمَّار ـ لابوانت ـ




من خِلاَلِ النظْرَة العابرةِ، يتراءى للمرء ذلك المكتب الضّم الفخم بأعَالِي القصبَةِ وهو مُـجَهَّز بِكُلِّ ما يَبْعَثُ على الرَّاحَة والانشراح. تشرِف واجِهتُه الأماميَّة على جُزْء واسع من مدينة الجزائر، أَمَّا الواجِهَةُ الخَلْفيّة فتطلّ على حديقة غنَّاء وارفة الظِّلال، تنبعث منها رَوَائِح عطرةٌ منعشة، تَجْعَلُ كلَّ من يًدْخِله يعجب برونقه وجماله وموقعه الأخَّاذ السَّاحِر.
وكَثيرا ما تطمئنّ نفس الضَّابط العسكريّ وهو بداخله يدير عمله بجد ونشاط، رغم صعوبة المهامّ وتعقّدها. تمرّ السَّاعة، وأحيانا السَّاعات دونَ أ، يشعُر بمرور الوقت، لكنَّه الآن، والآن بالذَّات، يُحِسّ بضيْق وتبّرم وانزعاج، وكأنه في قفص مغلق.
كان يقف حينًا خلف النَّافذة ليلقي بنظره هنا وهناك، وأحيانا أخرى يذرع المكان جيئة وذهابا في عصبيَّة لم يعهدها من قبل؛ فيشعل سجارة يجذب منها نفَسا أو نَفَسين ثمَّ بتخلَّص منها ويظلّ حائرا لا يدري ما يفعل ولا كيفَ يتصرَّف
منذ قليل فقط، رنّ جرش الهاتف، وما إن وضع السّمّاعَة على أذنه حتّى وصلَه صوت واضح من لعيد يزِفّ البشرى التّي طالَمَا تمنّـى سماعها.
سيدي الضَّبط، لقد تمكنّا من رصد مكانِه، لكن... وانقطعت المُكالمة فجْأة، إذ يبدو أنّ هُناك عللا ما وقع في خطِّ الهاتِف أو جِهاز الاستقبال، أو ربَّما قد طرأ طارئ أجْبر المتكلِّم على قطع الاتّصال، فضرب كَفًّا بِكَفٍّ أسفا وحسرة على ما حدث، وقد انتابه شعور غامض، مزيج من الفرحة العارمة والقلق والحيرة.
فمنذ أسابيع، بل أشهر، وهو على أحرّ من الجمر، في انتظار أن تصله مثل هذة المكالمة، لكنَّها ويا للأسف، جاءتْ أخيرا مبتورة، غامضة، تحمل عدّة تأويلات.
فهَلْ تمَّ إاقاء القبض عليه وهو الآن صاغر ذليل مكبّل اليدين والرِّجْلَيْن؟ أم أنهم عرفوا مخبأه فقط دون أن يَمْسكوا به؟ وقد يتمكَّن من مراوغتهم والإفلات منهم كما حدث معه ومع أمثاله مرارا! ثمّ ماذا يقصد المتكلّم بكلمة لكن؟ فأكيد أنَّ عمليّة القبض عليه لم تتم بصورة كاملة.
أسئلة، وأسئِلة راحت تتدافَع في ذهنه دون أن يجد لها جوابا شافيًا، بل إنّها زادت حيرته وقلقه، خاصّة أنَّه لا يدري من أين جاءته هذه المكالمة لكي يتصل بِصاحبها أو يرسل إليه مبعوثا خاصّا على عجل، ليأتيه بالخبر اليقين، فقد نشر عدة مخبرين وعساكر في مناطق مُختلفة من المدينة ووجّه إليْهِم أمرا واحدا: عليكم أن تأتوني به حيًّا أوميِّتا: فقد نفذ صبري، وصبر القيَّادة من نشاطِه "الإجرامي التّخريبي"
ثمّ زوّدهم بإحدى صوره وواصل قائلا:
إنَّه مُجْرِمٌ خطير، خطير جداً بتزّعم عصابة ممّن يسمُّون أنفشهم (الفدائييّن) الّذين نشروا الخَوْفَ والرّعب في كلِّ الأوسطِ، لم يَسْلَم من أذاهم المستوطنون الفرنسيّوُن ولا الأوربيُّون ولا خُلفاؤُنَا من الجزائريّين الّذين طالَما أخْلصوا لِفرنسا وقدّموا لها خدمات هامَّة، فبات كلّ واحد منَّا غير آمن على حياته بسبب إجْرامهم.
إنّهم يضعون القنابلَ في الطّرقات وَفي الحانات، وفي المراقِص، وفي النوادي، وفي كلِّ الأماكِن الَّتي يتواجد فيها أبناء جِلْدَتِنا أو المتعاونون معنا.
وَأخَذَ نَفَسًا طَويلاً من سيجارة كانت بين أصابعه، ثمّ واصل قائلاً:
لقد بات الوضع مُزْعجًا؛ لا يُحْتمل أبداً. ولابُدّ من وضع حَدٍّ لَه. ولن يتأتَّى ذلك ما لَـمْ نقبض على هذا (الفلاَّق) الخطير الّذي يُسمّى علي عمار والْمُكَنَّى (علي لابوانت)
رنَّ جرس الهاتف من جديد، فتَنَفَّس الصّعداء، ولم يدر كيف خطف السَّمَّاعة وقد ازدادت دقات قلبه خفقانا، وكلّه يقين من أنّ صاحب المكالَمة الأولى قد أَعاد الكرَّة من جديد، وها قد تكَلَّلَت محاولاته بالنَّجاح، وأكيد، أكيد أَنَّه هذه المرَّة سيوضّح له الأمر وسَيُخْبِره بكلّ شَيْء، وسيجيبه عن كلّ ما يجول في خاطره من أسئلة محيّرة. لكنّه ما كاد يضع السّمّاعَةَ على أذنه ويتأهّبُ للحديث حتّـى انقطعت الْمُكالَمة للمرَّة الثَّانية.
يالحظّـي التَّعس هذا اليـوم. قالها وهو يضربُ كَفًّا بِكَفٍّ، أسفا وحسرة، وكاد يصبّ جام غضبه على جهاز الهاتف فَيُهَشِّمَه ويلقي به من النَّافِذة، ولكنّه أدرك أنَّ ذلك ليس حلاَّ أبدا، بل تعقيد أكثر للوضع. فمن أين ستأتيه الْمُكالـمة إن فعل ذلك؟ وهو لم يفقد الأمل في الاتّصال به قريبا جدَّا جدّا.
وعاد يَذْرع الغرفة جيئة وذهابا وهو يفكر: إن كانوا قد قبضوا عليْهِ فعلا، وهذا ما أتمنَّاه، فسيأتون به إليَّ حالا؛ وسأتولىّ استنطاقه بِنَفْسي، وسأتلذّذ بتعذيبه، وأشفي غَليِليِ منه. سأفتكّ منه الْمعلومات الّتي أرغَب في الحصول عليهَا رغْما عنهُ.
أدرك أنَّ ذلك صعب، صعب جدّا لأنّ هذا الصّنف من البشر يفضّل الـموت على أن يزوّدنا بمعلومة واحدة.
لقد اشتغلت في العديد من بلدان العالم، واحتككت بأجناس مُختلفة، لكنّي لم أصادف شجاعة وإقداما وإصرارا على المبدأ بل واستعداداً للتَّضحيَّة مثلما وجدته عند هذا الشّعب، خاصّة لدى هذه الفئة الّتي تُسمىّ نفسهَا (فدائيين).
والأغرب من كلّ ذلك، هو هذا النّظام المُحكم لدى الشَّبكات الَّتي تُعِدّ المتفجّرات؛ فهذا يحضر الوعاء، وذاك يَصْنع الـمتَفجّرات والآخر يركّب البطّاريّة والأخير يضبط المنبّه المستعمل في التَّفجير، ولا أحد منهم يعرف الآخر، ماعدا المُشرفَ العامّ على العَمليَّة فإن نحن ألقينا القبض على احد أعضاء هذه الشَّبكة، فليس لديه ما يزوّدنا به من معلومة، وعادة ما يَـمُوت خلال الاستنطاق دون أن يُفيدنا بشيء.
ومن يدري، فقد يكون هذا مجرم الَّذي يُدْعى(علي لابوانت) هو المشرف؟ وأعتقد أنَّه كذلك
ومن يَدْري، فقد يكون هذا الْمجرم الّذي يُدْعى (علي لبوانت* هو المشرف؟ وأعتقدُ أنَهُ كذلك، وإن صحّ حدْسي فقد حُلَّت العقدة نهائيّا.
سأجْعَله يجيب عن أسئلتي، أجل سأبذل قُصَارى جهدي لا تمكَّنَ من ذلك بالتهديد والتَّرغيب، والكيد والمراوغة، فكلّ الوسائل في نظرنا نحن الفرنسيّين مباحة، مادامت تُؤدّي الغرض.
وحين أحقّق مُبْتَغايَ سأخنقه بيديّ هاتين ثمّ أدّعى أنّه انتحرَ، أجل سأفعل معه كما فعلت مع العربي بن مهيدي وغيره.
رنّ جرس الهاتف للمرّة الثّالثة، فاختطف السّمّاعَةَ كعادته في كلّ مرّة، وجاء الصّوت واضحا لكن هذه المرّة بِدَلاَلٍ وغنج صوت أنثوي قائلا:
سأنتظرك لنتغدّى معا، لا تتأخر يا عزيزي، ولا تنسَ أن تحضر لي زجاجة عطر باريسي من النّوع الرَّفيع وعلبة مساحيق، وفستان السَّهرة الَّذي حدّثتني عنه؛ وأيضا لحما طازجا طريّا من ذلك النَّوع الّذي يرضي كلبنا الصّغير، لكن لا تكثر منه، فهو كما تعرفه، لا يرغبُ في أكل اللّحم المحفوظ في الثّلاّجة.
ثارت الدّماء في عروقه وكاد يزعق في وجهها قائلا: هل هذا الحديث عن العطر والْمساحيق واللحم للكلاب؟ لكنَّهُ أمسك أعصابه، فَهِيَ لا تعلم شيئًا و أجابها باقتضاب قائلا: حاضر، حاضر: ووضع السّمّاعة.
ثمّ استرخى على مقعده الهزّاز في انتظار أن يرنّ الهاتف من جديد، ولـمّا أعياه ذلك الوضع فتح ملفّا كان موضوعا أمامه وراح يقرا:
الاسم: علي عمّار
المدعو: علي لابوانت.
تاريخ ومكان الميلاد: 14 ماي 1930 بمليانة.
المهنة : اشتغل في صباه في مزارع المعمَّرين، لكنّه كان ناقما على ما يعانيه هو وأمثاله من سيطرة واستغلال؛ فانطع عن ذلك العمل، ووجّه اهتمامه للعمل السّيّاسّي.
نشاطه السّياسي: غادر مليانة واستقرّ في العاصمة، بحثا عن حياة أفضل، فانخرط في ناديها الرّيّاضي حيث مارس رياضة الملاكمة واحتكّ بالكثير من الوطنيّين الّذين زرعوا فيه فكرة الثَّورة، حيث نشط ضمن الجماعات السّيَّاسَيّة إلى الزَّجّ به في غياهِبِ السِّجن وهناك أدركت نفسُهُ قيمة مقاومة الاستعمار وضرورة الحرب ضدّه، وفهم معنى التّضحيّة من اجل الوطَن.
وعاد الجرس يرنّ من جديد، التقط السّمّاعة بلهفة وشوق، دون أن يمهل مكلمه لحظة واحدة خوفا من هذا الانقطاع المتكرّر، راح يسأل:
أين أنتم؟ حدّد لي المكان بالضّبط لألتحق بكم حالا.
وجاء الردّ سريعا:
نَحْنُ الآن في حي القصبة الواقع في أعالي مدينة الجزائر، كما تعرفون حضرة الضّابط وهو مطوق بالعشرات من رجالنا، أعني قوات الْمظَّليّينو...، ولم يتركه يواصل كلامه بل قاطعه قائلاً:
أكونُ عندَكُم بعد دقائق معدودة.
ثمّ اختطف قبّعته الْمُعلّقة على المِشْجَبِ فوضعها على راشه، وفتح الباب واندفع ينزل الدّرج على عجل، بل هو لايعلم كيف وجد نفسه على متن سيارة الجيب العسكرية، إلى جانب أقرب مساعديه، وهي تجتاز أحياء العاصمة وشوارعها بسرعة جنونيَّة، كلَّما قلّل منها الشّائق نبّهه على ذلك وحثّه على السّرعة.
وما إن وصل اسفل القصبة حتّى نزل واندفع رفقة صاحبه يجتاز الممرّات والدّروب الضيّقة إلى أن أقترب من الهدف.
المكان غاص بالضّبّاط والجنود المدجّجينَ بالأسلحة. الكلّ في هرجٍ ومَرَجٍ وكأنّهم في ميدان معركة حاميّة الوَطيِسِ، فسأل المشرف على العمليّة:
أيْن المجرم؟
ردّ قائلا:
بل قل أين المجرمون يا حضرة الضّابط؟
هل هم كثيرون؟
أجل، إِنَّهم أربعة، وصلتنا معلومات بأنَّهم مُخْتَبئون في هذه العمارة الهشّة الآيلَةِ إلى الْسّقوط، فأسرعنا إلى محاصرتها.
عاد يسأل:
من هؤلاء الأربعة؟
حسب ما لدينا من معلومات، أحدهم هو المجرم الخطير الّذي كلَّفتنا بالبحث عنه.
تقصد علي عمّار، الْمَدْعُو ( علي لابوانت).
أجل، أجل.
ومن معه؟
إنَّه مع مجموعة من أمثاله.
من هم؟
معهُ حسيبة بن بوعلي، محمود بوحميدي، عمر الصّغير، وكلّهم من العناصر الخطيرة جدّا.
واصل الاستفسار:
وكيْفَ تَصَرَّفْتم معهم؟
طوَّقْنا المكان من كلِّ جِهة، ثمّ وجّهنا نداءات متكرّرة عبر مكبّر الصّوت، أن سلِّمُوا أنفسكم، فلا ملاذ لكم غير التّسليم؟
وكيْفَ كان ردّهم؟
لقد كان ردّا غريباً، عجيِبًا، حقًّا.
كيْف؟
كلّما طلَبْنا منهم تسليم أنفسهم أمطرونا بوابل من الرّصاص، وكأنّهم يريدون أن يقولوا لنا "نفضل الموت على الاستسلام".
وكَيْفَ يَنْبَغِي التّصرّف معهم؟.
لمْ نستطيع اتّخاذ أيّ فرار في هذا الشّأن قبل أن نتلقّى الأوامِر منكم، فلقضيَة في غاية الصّعوبة والتّعقيد، ولا أحد منَّا بإمكانه الفصل فيها غير حضرتكم.
كيف؟
لو اقتحمنا العمارة، فمن أدرانا، فقد تكون طوابقها ملغَّمة فنخسر بعض أفراد قوّاتنا، وإن بقينا نطلق الرّصاص فقد يكونون في موضع آمن قد لا يصله رصاصنا. ثمّ إنّنا لا نريد القضاء عليهم، بل نريدهم أحياء؛ فأوامركم الموجّهة إلينا تقول دائما:
في حالة وجود (فلاق) خطير محاصر حاوِلوا أن تلقوا القبض عليه حيّا لاستنطاقه، إنّنا فعلا في ورطة، أجل في ورطة كبيرة!.
صاح الضّابطُ غاضِبًا:
جيش عرمرم، مزوّد بأحدث الأسلحة وأجهزة الاستكشاف والرَّصد يقف حائراً أمام أربعة من الفلاّقة المحاصرين، شبه عزل؟! يا للكارثة! يا للعار! هيّا لَغِّمُوا المكان حالا، حالا.
المكان الملغّم كله يا حضرة الضَّابط، ونستطيع أن ننّزل العمارة برمّتها لتهوي بمن فيها في لَحظات، هل ننفّذ؟.
لكنّ الضّابط وقف حائرا مفكِّرا.
هذا الشَّخص خزَّان مليء بالأشرار المتعلّقة بالثّورة. فقد كان قائداً للفدائيّين، وهو احد أبطال معركة الجزائر الَّتي دوخَتْ فِرَنْسا. كما أنَّه عمل إلى جانب العديد من قادة الثَّورة، وأكيد أنَّه يعرف مخابئ الكثيرين منهم. إضافة إلى كلِّ هذا، فلديه براعة خارقة في التّخفِّي والتّخطيط، وتجْنيد الشّباب، وهي من الخصال الّتي قلّما تجْتَمِعُ في أحد. فلو امسكنا به حيّ سيكون صيداً ثميناً، لكن كيف السبيل إلى ذلك، كيف؟
ونبّهَهُ المشرف على العمليّة من شروده وهو يسال:
الوقت يـمرّ، وهذا ليس في صالحنا، فقد يعمّ الظّلام ونحن لم نتّخذ قرارا.
معك حقّ، أجل فعلا، يبْدو أنَّه تحدّنا حيّا، وسيتحدّانا ميّتا، سينال النّهاية الّتي كان يتمنَّاها. أما نحن سنعود صفر اليدين، لكنّنا مرغمون على ذلك، أجل نحن مرغمون.
هيَّا فَجِّر العمارة حالا!.
وما هي إلا لحظات، حتَّى اهتزّا المكان على صوت دويّ مرعب، فهَوَتِ العِمارة وتحولّت إلى ركام.
وانطلقت الزّغاريد من حناجر نساء القصبة، تبارك لهؤلاء حسن الخاتمة وقد اختلطت زغاريدهن بصوت الْمُؤذِّن وهو يدعو للصلاة قائلا:
الله أكبر الله اكبر لا إله إلاَّ الله
تحيا الجزائر "المجد والخلود لشهدائنا الأبرار"






الشهيدة وريدة مَدَّاد



تعودت على رُؤْيةِ عمّيِ عبد الرحمن وهوَ جالس في مقهى الحيّ أثناء ذهابي إلى المؤَشَّشة التَعليمية الّتي أزاولُ الدِّراسة فيها أو عند رجوعي إلى المنزل، إنَّه رجل طيّب القلب، يُحبُّه الجيران والأصدقاءُ، ويتحدثون عن شجاعَتِه، وبُطُولَتِه أثْناءَ ثوْرَة التَّحرير الّتي التحق بها منذ اندلاعها، وشارك في العمليَّاتِ الفدائيَّةِ الَّتي كانوا يقومون بها في المُدُنِ، ولاسيَّما في حي القصبةِ بالجزائر العاصمة، وكُنْتُ كلَّما التقيت به بادرتُهُ بالتحيَّة فيرُدُّ التَّحِيَّةَ بأحْسَنِ منهاَ.
سمعتُ أبي عدَّةَ مرّاَتٍ يتحَدَّثٌ عَنْ طيبةِ ٌقلبه ودماثةِ خُلقه ، وعن كثرة العمليَّات الفِدائيَّة الّتي شارك في تنفيذها بالأحياء المختلفة في العاصمة، وأغْلبها كان بالقصبة، وبعد إضراب الثَّمانية أيَّامٍ الَّضي شُرِعَ فيه من 28 جانفي 1957 ميلادية حتَّى الرابع فبراير من ذات العام ألْقيَ عليْه القبض، وزُجَّ به السِّجن ولم يخرج منه بعْد الاستقلالِ.
في يومٍ من الأيَّام زَارَنا ابنُ خالي فريدٌ وأتْناء الحديث معه عن الدِّراسَةِ قال:
إنَّ أستاذ مادَّة التَّاريخَ كلَّفنا بإنجاز بَحْث عن الشَّهيدة الّتي أطلِقَ اسْمها على المؤسَّسة التَّي أدرُس فيها.
قُلْتُ ما اسمها؟
قالَ: اسمها وُرِيْدَةُ مَدَّاد، فَهلْ قرَأتَ عَنْها؟
قُلْتُ: لا، ثُمَّ تَذَكَّرْتُ أنِّ شَاهَدْتُ لَوْحَةً من الرُّخامِ ثُبِّتَتْ في جِدار بنايةٍ، عليْهاَ صُورة الشَّهِيدَة، وَنُبْذَةٌ مُخْتصرةٌ عن حياَتِهَا.
فقُلْتُ لِفَريدٍ: أحضِرْ معَكَ قَلَمًا وأوراقاً، وتعَالَ مَعي.
فاعتقدَ أنِّـي أريدُ أن أصطَحِبَه إلى مَكْتَبَةٍ عموميَّةٍ أو مركز من مراكز تنشيِطِ الشَّبابِ، وقال: أنَسَيْتَ أنَّ اليومَ هو يوم عُطلة نِهاية الأسبوعِ؟
فقُلْتُ: لمْ أنْسَ.
فأحضر ما طلبْتُ مِنْهُ ورافقني، وَلَمّا وَصَلْنا إلى مَرْكَزِ التَّكْوين المِهَني بحيِّ سوسطارة، توقًّفنَا أما اللَّوحَةِ، اجلِسْ واكتب ما أقول.
وُلِدَتْ وُريدةُ مَدادُ بحَيِّ "تَاقَرَا" الّذي يقعُ بيْن باب اجْديدْ وحيِّ الأبيارِ في 18 أوت 1938 هيَ البنتُ البِكْرُ لأبَوَيْهَا.
عَاشَتْ في كَنَفِها عيشَةَ ميْسورةَ الحالِ بالنِّسبة للعائلات الجزائريَّة في ذلكَ الوَقْتِ، ولَمَّا بَلَغَتْ سِنّ الدِّراسةِ الْتَحَقَتْ بالمَدرسة الابتدائيَّةِ، لكنَّ عائِلتَهَا سُرْعانَ ما منعَتْها من مواصلةِ الدِّراسَةِ في المدرسة الفرنسيَّة خوفا علَيْها من التأثُّرِ بثقافة العدوِّ المحتلِّ، مِثْلَ كَثير من الأسَرِ الجزائريَّةِ في ذلك الوقتِ.
فريد: إِذَنْ عَاشَتْ أميَّةً.
الحارسُ: لاَ تَسْتَعْجِل في الاستنتاجِ، لقَدْ ألحَقتْها عاءلتُها بمدرسةٍ خاصَّةٍ أَنْشَأَتْها جمعية الصَّباح الإسلاميَّة، فَزاولَت الدِّراسَةَ فيها حتَّى تَحَصَّلَتْ على الشَّهَادةِ الابتِدائِيَّةِ.
وبَعْدها التحقت بمركز التَّكوين المِهني لِتتٍعلَّم فنَّ الخِيَاطَةِ.
فَريدٌ: لِماذا لَمْ تواصِلْ تَعَلُّمَهَا؟
الحارسُ: لَقَدْ وَصَلَتْ إلى مستوى الشَّهادةِ الابتدائيَّةِ باللُّغة العربيَّة، فكيفَ يُمْكِنُها مواصلةُ التَّعليمَ باللُّغة الفَرَنسيَّةِ؟! وليَكُنْ في عِلمِكَ أنَّ أَغْلَبَ الجزائرييِّن كانوا يُحْرَمون من مواصلة التَّعليمِ، حتّى الَّذينَ يتحصَّلون على الشَّهادة باللغة الفرنسيَّةِ.
فريدٌ: متىَ التحقَتْ بالثَّورَةِ؟
الحارس: ليسَ لديَّ معلومات غَيْرُ الَّتي قُلْتُها لكَ، ونحن اليوم في عطلةٍ، ولا يوجد في المركز أحد غيري، فعُدْ مرَّةً أخرى للحصول على ما تُريد من الإدارَةِ أو الأساتِذَة. شَكرْنا الحارِسَ على حُسْنِ الاستقبالِ وَعلى الْمَعْلومات الَّتي زَوَّدَنَا بِها ثُمَّ وَدَّعْناهُ وَعُدْنا إلى المَنْزِلِ. وَ أَثناءَ العوْدَةِ تذكَّرْتُ عمِّ عبد الرّحمن، فقلت لفريدٍ:
يَسْكُنُ في حيِّنا مُجَاهِدٌ، لَعَلَّهُ يَعْرِفُ وُرَيْدَةَ مدَّادَ أولديه معلومات تاريخية عنها.
فقال فريد: أرجوكَ أنْ تأخُذَنيِ إِلَيْهِ ليُجِيبَنِي عن بعض الأسئِلَةِ الَّتي لمْ يَسْتَطِعْ حارسُ المَرْكَزِ الإجابةَ عَنْهاَ.
فقَال فريد: أرْجوكَ أنْ تَأخُذَنيِ إلَيْهِ لِيُجيِبَني عنْ بَعْضِ الأسئِلَةِ الَّتي لمْ يستطعْ حارِسَ الْمَرْ كَزِ الإِجَابَةَ عنهاَ.
فَقُلْتُ: إِنَّهُ مُتَعَوِّدٌ على الجُلُوسِ في مَقْهَى الحَيِّ، فَلَعَلَّنَا نَـجِدُهُ هُنَاكَ.
رَجَعْناَ في نَفْسِ الطَّريقِ الَّذي يَقَعُ فِيهِ المَقْهَى فَوَجَدْنَا عَمِّي عبْد الرَّحمن يَجلِسُ إلى طاولةٍ وَحدَهُ، وأمامَهُ فِنْجانُ شَاي، وكان يتصَفَّحُ إحدىَ الجرائدِ اليوْمِيَّةِ، فَبادرَتْهُ بالتَّحيَّة، واستأذَنْتُهُ لِلْجُلُوسِ إلـىَ جانِبِهِ، ثمّ قُلْتُ لَه:
إنَّ هذَا ابْنُ خَالِي، قَدِمَ لِزِيَارَتِنَا، وَقَدْ قَصَدْناكَ لِتُسَاعِدَنَا على اسْتِكْمَالِ بَعْضِ الْمَعْلوماتِ عنْ شَهيِدةٍ من شُهداء ثورة التَّحرير.
فقالَ: مَا اسْـمُهَا؟ فبادَرَهُ فريد بالرَّدِّ قائلاً: اسْـمُهَا وُرَيْدَة مَدَّاد فالْتَفَتَ إِلَيَّ عَمِّي عبْدُ الرَّحْمَن، وَقَالَ: اذْهَبْ مَعَهُ إلـىَ مَرْكَزِ التَّكْوين الْمِهنيِّ الَّذيِ يَحْمِلُ... قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ كلاَمَهُ قالَ لَهُ: لَقَدْ كُنَّا قَبْلَ قَلِيلٍ هُنَاكَ، وَدوَّنا كلَّ المعلومات الَّتي كُتِبَتْ عَلَى اللَّوْحَة الجِداَرِيَّةِ، وَنريدُ مِنْكَ أنْ تُجيبَنَا عَنْ بَعْضِ الأسئلَةِ..حينئِذٍ طلبَ من فريد أن يُحْضِرَ كُرْسيَّا آخر ليَجْلِسَ عليه ثمَّ طلب من النَّادِل أن يُحْضِرَ زُجاجتَيْ مَشْروبات، ثمَّ قال:
ما هِيَ أسْئِلَتُكُمَا؟
أخرجَ فريد القلمَ والورقةَ وقال: كيفَ التحَقَت وُرَيْدَة مدَّاد بالثَّورَةِ؟
المُجاهِدُ: عندما اندَلَعَت الثَّورة كَنَتِ الشَّهيِدة وُرَيدة مدَّاد قد بلغتْ من العُمر ما جعلها تَعي حقيقة المأساةِ الَّتي كان يعاني مِنْها الجزائريُّون تحت نير الاسْتعْمار، هذا من جهة، ومن جِهةٍ أخْرى فقد لقَّنها شيوخها دروساً في حبِّ التَّضحيَةِ والإخْلاص للوطَنِ أثناء دِراستِهاَ بِمَدْرِسةِ الصَّباح.
فلَمَّا انْدلعَتِ الْثَّورةُ في الفاتح من شهرِ نوفمبر 1954ميلادية أَصْبَح همُّ وُريْدة مدَّاد الحديث عنْها، والاستماع إلى أخبارِ المُجاهدين وما كانوا يقومون به ضدَّ الاستعمار وأعوانه من الخونة. ومع بُلُوغِ الثَّورة عَامَهَا الثَّاني أصبَحت وُريدَة مدَّاد أكثر إرادةً ورَغْبَة في الانضمام إلَيْهَا.
فيِ يَومٍ من الأيَّامِ طَلَبَتْ من إِحْدى المُجاهِدَاتِ أنْ تُسَاعِدَهَا على المقابلةِ أيِّ مسؤولٍ فِي التَّنظيِمِ الثَّوري بمدِينَةِ الـْجـَزائر فَبَلَّغَتِ المٌجاهِدَةُ رغْبَتَها إلى دَّبيحَ الشَّريف المدعوا أثناء الثَّوْرَةِ(مُراد).
فريدٌ: أَيْنَ الْتقَتْ بِهِ، وَمتىَ؟
المُجَاهِد: في مطْلَعِ عام 1957 قصدَ دَبِّيح الشَّريف، المَسْؤولُ السِّيَاسيُّ والعَسْكَرِيُّ للنِّظام بالعاصمة مع مناضلين آخرينَ لَهُ، منزِلَ عائلتها بِباب اجْدِيد.
فريدٌ: كَيْفَ حصل ذلك؟ نَظَرَ عمِّي عبدُ الرَّحمن إلى زُجاجة المشروبات، فوجدها كمَا أحضّرَها النَّادِلُ، لأنَّ فريداً انشغَلَ بِتَدوينِ المعلوماتِ، وَنَسِي الْمشروبَ لمْ يُعْجِبْكَ، اطْلُبْ غَيْرَه.
أخَذَ فَريِدٌ الزُّجاجةَ وشرب ما فيها على ثلاث جُرْعاتٍ حتَّى يَتَفَرَّغَ لِلكِتَابة، وطَلَبَ من المُجاهِدِ ألاَّ يُسْرِعَ الحديثِ ليَتَمَكَّنَ من التَّدوين.
واصل عمِّي عبدُ الرَّحمن حديثَهُ قائلاً: قضى دَبيح الشَّريف مع رفاقه تِلْكَ اللَّيْلَةَ في مَنْزِلِ عائِلَتِهَا، فَعَلِمَتْ وُرَيْدَةُ أنَّهُم مجاهدون، فاستغلَّت الفُرْصةَ وعرَضَتْ رَغْبَتَها علَيْهِمْ في الالتحاق بالثَّورةِ. وبعد الحديث معهَا اطمَأَنُّوا إِلَيْهاَ، وقَرَّروا أوَّلاً اختبار صِدْقِ نواياهاَ تِجاَهَ الثَّورَة.
كَيْفَ تَمَّ ذلكَ؟
الْمُجاَهِدُ: سأحَدِّثُكَ عنْ ذلك بعد قَليِل.
في تلك اللَّيْلَةِ حدَّدوا لها موعِداً مع مُجاهِدَةٍ كانت من قبلُ على درايةٍ بِطَبيعةِ النَّشاطِ الفدائي، فقدَّمَتْ لِوُرَيْدَة مدَّاد توجيهاتٍ حولَ طَبِيعةِ النَّشاطِ الفِدائيِّ الَّذي ستقومُ بِهِ وما يتطلَّبُهُ ذلكَ من الحيطَةِ والحذَرِ والشَّجاعَةِ والصَّبْرِ، والاضطرارِ بالقبول في كثيرِ من الأحيان إلى المبيتِ خارج المنزِلِ، فأَبْدَتْ وريدَةٌ مدَّاد كامِلَ استعدادِهاَ للقيَّامِ بما يُمليهِ علَيْهاَ الواجِبُ الوطنيُّ مهما كانتِ الصُّعوباتُ والعَقَبَاتُ.
فريد: لقد عَلِمَتْ أنَّها من عائلَةٍ مُحافِظَةٍ على العادات والتَّقاليد وبِسبب ذلك مُنعت من مواصلة الدِّراسة في المدرسة الفرنسيَّة فكيف سمحت لَها هذِه الْمرَّةَ بالمبيتِ خارِجَ المَنْزِل؟
الْمُجاهد: لَقَد وَجَدت في بداية الأمر مُعارضةً شديدة، ولا سيَّما من أبيهاَ، ولكنَّه سرعان ما استجاب للمهمَّة النَّبيلةِ الَّتي كانت تَقُوم بها ابنتُهُ. وبعْدَ هذا الجَواب عادَ إلى مواصلةِ الحديث فقال:
كانت وُرَيْدةُ تتميَّزُ بإخلاصِها الدَّؤوب، وتفانيها الكبيرِ في أداءِ الواجِب الوطنِّي، لذلك قامت بالمهمَّات الَّتي كٌلِّفتْ بِها خَيْرَ قيامٍ رَغْمَ الحصار الشَّديد على مدينة الجزائر الَّتي كانت تنشُط فيها، وكَثْرة الوشاياتِ الَّتي ذهبَ ضحيَّتَها العديد من الفِدائيِّينَ خلالَ ذَلِكَ.
والآن حان الوقْتُ لأحَدِّثَكَ عن الشَّخْصِ الَّذي كان سبباً في إلقاء القبْضِ عَلَيْها.
فخلال إضراب الثَّمانيةِ أيَّامٍ فيِ مطْلَعِ عام 1957ميلادية أُلْقِيَ الْقَبْضُ على شَخْصٍ مِمَّنْ رافَق دبِّيح الشَّريف إلى منزِلِ عائلَتِها بباب اجديد وقضوْا لْيلتَهُمْ هُناكَ.
و أثناءَ اسْتنْطاقِهِ سُلِّط عليه أبشعَ صُور الْقَهرِ والتعذيب، فلم يتحمَّل ذلك، وباح للْعدِّو بِأسماء الفدائيّين الَّذين ينْشُطُ معَهُم، والمراكِزَ السِّرِّيَّةِ الَّتي يَعْرِفُهاَ.
فَريد: وماذا وَقَعَ بَعْدَ ذلِكَ؟
عَادَ الشَّهيد دَبِيح الشَّريف إلى منزِلِ عائلَتِهَا بباب اجْديد، لِيُكَلِّفَها بِنَقْلِ القنابِلِ والأَسْلِحَةِ الخَفِيفَةَ من مخابئِهَا إلى مكانٍ آخر.
فادَتْ تِلْكَ المهمة بنجاحٍ. وبينما كانت تسير عَبر منفذٍ بأحدِ الأزِقَّةِ حيِّ القَصَبَةِ السُّفْلى، وَجَدتْ نَفْسَهاَ فَجْأَةً وَجْهاً لوَجْهٍ معَ رِجالِ المِظلاَّتِ ومعهم الشَّخْصُ الْمَعْنيُّ، فلمَّا رآها من بعيدٍ عرفهَا وأومأ إليْهم بأَنَّها من الفدائيِّين الْمَطلوب القَبْضُ عَلَيْهُم، فأسرعوا إلى القَبْضِ عَلَيْها فَوراً، وقادوها إلى مركز الاستنطاق والتَّعذيبِ بمدرسة تُسمَّى (قمْبِيطَة) بِحَيِّ (سوسطارة) حيثُ تعَرَّضَتْ لشتَّى أَنْواعِ القَهْرِ والتَّعذيبِ النَّفْسيِّ والجَسَدِيِّ، لَكِنَّها ظَلَّتْ صامِدَةً وثابتة.
فريد: هلْ فَعَلَتْ كما فَعَلَ غيرهاَ؟
المُجاهِد: كلاَّ، بَلْ ظَلَّتْ صامِدَةً، مُفَضِّلَةً الْمَوْتَ على الحيَاةِ
فريد: وكَيْفَ اسْتُشْهِدَتْ؟
الْمُجاهد: لَمَّا رَأوْهاَ صَامِدَةً، مُتَحَمِّلةً العذَابَ الْجَسَديَّ، قَيَّدوهاَ مِن يَدَيْهَا، وذهَبُوا بِهَا إلىَ مَنْزِلِ عائِلَتِهَا وَهِيَ في وضْعِيَّةٍ سَيِّئَةٍ جِداً، لِيُؤَثِّروا علَيْهَا نَفْسِيًّا، لَكِنَّهَا ظَلَّتْ صامِدَةً وثابِتَةً على موقِفِهاَ الْبُطُولِيِّ، فَلَمَّا لمْ يُحَقِّقُوا غَرَضَهُمْ رَجَعُوا بِهاَ إلى الْمَرْكَزِ الاستِنْطَاقِ والتَّعْذِيب وسَلَّطُوا علَيْهَا غذَابًا أشَدَّ وأكْبَرَ، لإجْبَارِهاَ على البَوْحِ بِأسرارِ الثَّورةِ. وَعِنْدَما يَئِسُوا مِنَ الْحُصُولِ عَلَى مُرادِهِمْ، رَمَوْهَا من فَوْقِ سُورٍ شاهِقٍ في مَطْلَعِ شهْر سبتمبر 1957 ميلادية وَعُمُرُهاَ تِسْعَ عشْرَةً سنَةً فانْضَمَّتْ إِلىَ قافِلَةِ الشُّهَداء الَّذين سَقَوا بِدِمائِهِمْ شَجَرَةَ حُرِّيَّةِ الْبِلاَدِ واسْتِقْلاَلِهَا.
قُلْتُ: مَا أعْظَمَ شَجَاعَةَ هَذِهِ الْبَطَلَةَ! لَقَدْ تَحَمَّلَتْ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَتَحمَّلْهُ غَيْرُهَا، مُفَضِّلَةً الشَّهادَةَ عَلَى الْحَيَاة.
فَرَدَّ الْمُجَاهِدُ بالقَوْلِ: إنَّ حُبَّ الوَطَنِ والإخْلاص فيِ الجِهاَدِ جَعَلَ الكَثِيرَ من المُجاهدِين يُفَضِّلُونَ الشَّهادَة مَهْما كَانَت الظُّروفُ، عَلَى الذُّلِّ والخِيَانَةِ، وَمِنْهُمْ وُرَيْدَة مَدَّاد.
أمَّا فَريد فشَكَرَهُ عَلَى الْمَعْلُوماتِ الَّتي استَقَاهَا مِنْهُ، وَوَدَّعَهُ وهُوَ يَتَمَنَّى لَهُ أنْ يُمَتِّعَهُ اللهُ بالصِّحَّةِ والعَافِيَةِ فِيمَا تَبَقَّى لَهُ من الْعُمْر.


الله أكبر الله اكبر لا إله إلاَّ الله
تحيا الجزائر "المجد والخلود لشهدائنا الأبرار"






الشهيد دبيح الشريف
سي مراد
في إحدى أزقة العاصمة الضيقة، كنت واقفا أتتبع حركاته في كل يوم أذهب فيه إلى المدرسة،كان يظهر في الساعات الأولى من الصباح بشارع ضيق وبزاوية فيه، يتوقف و يخرج كرسي صغير ليجلس عليه و يبدأ عمله اليومي...انه عمي حمدان الاسكافي ..كل الناس ينادونه بعمار البلاندي.. و هو يبتسم في وجه كل المارة...قصدته يوما و طلبت منه أن يخيط محفظة أخي سليم، فعرض علي الجلوس بجانبه...
فجلست، و بدأ عمله و هويقول...ابن من أنت يا بني ؟ فقلت..أنا.. ابن عبدالرحمان صاحب محل الأقمشة الموجود في شارع الشهيد دبيح الشريف.فقال..اعرفه جيدا، و يعرفني أيضا.أبوك هذا... قبل أن يبدأ عمله الحالي، كان ملاكما بارعا، كنا نتدرب سويا في قاعة صغيرة كان يديرها احد المستعمرين...كانوا يكرهون الجزائريين و يبغضونهم بغضا شديدا وبالأخص أنا و والدك...لأننا... بكل بساطة كنا نتحداهم...
ولم يهزمنا أى واحد منهم طوال ثلاث سنوات قضيناها في ممارسة الملاكمة...
إلى أن جاء اليوم الذي توقفنا فيه عن الملاكمة و دخلنا كما يقولون – المعمعة-فقلت لعمي حمدان...لم افهم ماذا تقصد بكلامك؟ فقال... سأروي لك باختصار قصتي مع أبيك...اعلم يا بني... انه في عام 1955 اتصل بنا احد المناضلين و عرض علينا الانخراط في صفوف الثَّورة التَّحريرية المباركة و بالضَّبط بفرق الفدائيين، و كان مجال عملنا بالعاصمة وبِدقَّة بالْمُرادية و الْمَدنية ...و هناك تعرفنا على الشَّهيد دبيح الشريف المدعو سي مراد...ولد الشهيد دبيح الشريف في 10 مايو 1926 بأحد أحياء العاص
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://benchicao.forumalgerie.net
 
قصص للمطالعة من إعداد عبد المالك عبد القادر مدير مدرسة النصر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» اختبار شهر ماي 2013 لتلاميذ مدرسة النصر خمس نخلات وادي العلايق - البليدة من إعداد : عبد المالك عبد القادر
» إنما المؤمنون إخوة قصة للمطالعة من إعداد عبد المالك عبد القادر
» الأمير عبد القادر - من إعداد عبد المالك عبد القادر
» صورة مدير المدرسة عبد المالك عبد القادر
» قصة سيِّدُنا نوح من إعداد عبد المالك عبد القادر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مدرسة النصر وادي العلايق. البليدة :: الفئة الأولى :: مواضيع عامـة-
انتقل الى: